انغلاق المجتمع الإسرائيلي وتزايد تطرفه
هشام منور |
تكشف تصريحات الإدانة والرفض التي صدرت من وزير التربية والتعليم الإسرائيلي زعيم "البيت اليهودي" نفتالي بينت، بخصوص تصريحات حاخام الكلية العسكرية في مستوطنة (عيلي) الحاخام يغئال ليفنشتاين، التي تناولت بالدرجة الأولى فتاوى وأحكام التوراة في مسألة المثليين جنسيّاً، ووصف ليفنشتاين لهم بأنهم شواذ ويجب أن يكونوا منبوذين؛ الخلاف القائم بين التيار الذي ينتمي له ويقوده بينت، والتيار الفرعي ضمن التيار الديني الصهيوني، وهو التيار المعروف بتيار الحريديم الصهيونيين، وإن كان كثيرون لا يميزون بين الاثنين، بفعل طغيان التماهي في مواقفهما بالقضايا السياسية الكبرى، وعلى رأسها الاستيطان، وبناء الهيكل، وتحكيم التوراة.
تصريحات ليفنشتاين أثارت ضجة كبيرة في كيان الاحتلال، خصوصاً كونها إعلان مواجهة مباشرة بين تيار ديني صهيوني حريدي يخدم أبناؤه في الجيش، وسلطات الجيش وأعلاها مرتبة رئيس الأركان، إلى درجة هدد فيها رئيس أركان الجيش الحالي الجنرال غادي آيزنكوت بقطع علاقة الجيش مع الكلية التحضيرية التي يتزعمها ليفنشتاين، ما لم يتراجع عن أقواله بشأن المثليين جنسيّاً.
ولكن كانت لافتة مسارعة نفتالي بينت إلى استنكار تصريحاته ومطالبته بالاعتذار عنها، خلافاً للموقف الذي اتخذه بينت ومعه قادة الصهيونية الدينية من تصريحات الحاخام العسكري الرئيس للجيش الإسرائيلي العقيد أيال كريم، التي لم تختلف في جوهرها ومضمونها عن تصريحات ليفنشتاين، ما يعزز من حجم التوتر والصدع القائمين بين التيار الديني الصهيوني العام وتيار الصهيونيين الحريديم.
لا يمكن تفسير هذا الموقف من بينت دون الإشارة إلى التوتر السياسي مع حزب "الاتحاد القومي" برئاسة أوري أريئيل الذي يمثّل تيار الحريديم الصهيونيين الذين يُطلقون على أنفسهم "الحريديم القوميين"؛ فتيار الحريديم الصهيونيين نشأ في العقدين الماضيين من رحم التيار الديني الصهيوني، الذي تعود جذوره إلى أواخر القرن التاسع عشر تيارًا دينيًّا في الحركة الصهيونية، لكن أتباع هذا التيار حافظوا في البدايات على إعلان كونهم جزءاً من التيار الصهيوني الديني، مع إبراز خصوصيتهم أفرادًا بداية في كونهم أكثر تديناً، وأكثر احتشاماً في الملبس والمظهر، لكن سنوات التسعينيات من القرن الماضي شهدت بدء نوع من التمرد على سيطرة التيار الديني الصهيوني على روتين الحياة والتعليم، وأخذ أبناء هذا التيار يجاهرون بمطالب عدت غير مقبولة عموماً، مثل المطالبة بفصل البنات عن الفتيان في حركات الشبيبة وفي المدارس، وأخذوا يقتربون أكثر فأكثر في كل ما يتعلق بطابع الحياة والفروض الدينية والواجبات الحياتية من نمط حياة جمهور اليهود الحريديم غير الصهيونيين، ومن ذلك مطالبتهم _مثلاً_ إلى جانب الفصل في التعليم بين الفتيان والبنات، بخفض ساعات التعليم للمواضيع العلمية في مدارسهم لمصلحة زيادة ساعات تعليم التوراة، والاتجاه نحو الانغلاق الاجتماعي عن مجمل المجتمع الإسرائيلي، خلافاً لعقيدة التيار الديني الصهيوني العام القائل بالاندماج في المجتمع الإسرائيلي بوجه عام، خصوصاً في سوق العمل، والتغلغل في أجهزة الكيان ومؤسساتها.
مع مرور الوقت ازداد تعاظم مكانة أبناء التيار الصهيوني الديني في الخدمة العسكرية وفي صفوف الجيش، إذ أشار تقرير في صحيفة (هآرتس) إلى أن 40 من المائة من خريجي الكليات العسكرية هم من التيار الصهيوني الديني، دون فصل من يتبع منهم للتيار الحريدي الصهيوني عن غيرهم، مع هذا التعاظم تزايدت أيضاً ثقة أبناء التيار الحريدي الصهيوني بأنفسهم، وأخذوا يجاهرون هم وحاخاماتهم بمواقفهم الخاصة التي تميزهم من التيار الصهيوني الديني العام، خصوصاً ما يتعلق بالانغلاق والتشدد في تطبيق أحكام التوراة في الحياة اليومية وفي السياسة.
وقد تجلى هذا الأمر خاصة مع تشكيل أول مجموعة من "الربانيين" المعروفة باسم (رابنيي تكوما)، وعلى رأسهم الحاخام دوف ليئور وحاييم شطاينر وإيسر كلونسكي، ويشكّل هؤلاء المرجعية الدينية لحزب "الاتحاد القومي" المتحالف مع حزب "البيت اليهودي" في (الكنيست) ويتزعمه أوري أريئيل، وقد سبق لهؤلاء أن افتعلوا أزمة مع بينت مطلع أيار (مايو) الماضي، عندما حذروا من المس بميزانيات المدارس الدينية اليهودية للحريديم الصهيونيين.
تعاظم مكانة المتطرفين في المجتمع الإسرائيلي يترافق هو وتزايد مخاوفه وانغلاقه عن محيطه والعالم، فقد أظهر استطلاع للرأي العام أجرته "النقابة الصهيونية العالمية" أن 59 من المائة من الإسرائيليين يتخوّفون من السفر إلى الخارج، خشية التعرّض لهم، وتدل نتائج الاستطلاع التي نشرها موقع صحيفة (ميكور ريشون) أخيراً على حدوث زيادة بنسبة 34 من المائة في عدد الإسرائيليين اليهود الذين يخشون السفر إلى الخارج، مقارنة بنتائج الاستطلاع الذي أُجري العام الماضي.
وبينت النتائج أن الخوف لدى النساء الإسرائيليات أكبر مما هو لدى الرجال، إذ إن 62 من المائة منهن أكدن خوفهنّ من السفر إلى الخارج، في حين أعرب 55 من المائة من الرجال عن هذه المخاوف، وأشار الاستطلاع إلى أن المستوطنين في تل الربيع أكثر خوفاً من السفر، مقارنة بالمدن الأخرى، وتحديداً القدس المحتلة، مع العلم بأن تل الربيع تضم أكبر تجمّع سكاني في كيان الاحتلال، إذ يقطنها أكثر من مليون ونصف مليون نسمة.
وأظهر الاستطلاع أن 69 من المائة من الإسرائيليين يحرصون على عدم الإقدام على أي سلوك يدل على أنهم يهود، في أثناء وجودهم بالخارج. وتبيّن أن الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين الذين يسافرون إلى الخارج يحرصون على عدم التحدث بالعبرية فيما بينهم أو عبر الهواتف النقالة في أثناء وجودهم بالخارج، خشية أن يدل ذلك على كونهم إسرائيليين أو يهوداً، ما قد يؤدي إلى التعرض لهم.
تطرف يتنامى داخل المجتمع الإسرائيلي، يقابله مخاوف من زوال كيانهم والسفر إلى الخارج خشية التعرض لهم، هي أزمات عميقة ترمي بظلالها على مجتمع أسس على عجل، ولكن ليس ليبقى طويلاً.
لا تعليقات في " انغلاق المجتمع الإسرائيلي وتزايد تطرفه "