محاكمة الأطفال: ابتكار القوانين الأكثر عنصرية
د.محمد رمضان الاّغا |
في إقرار هذا القانون تقنين للظلم، وممارسة فعلية لقتل الطفولة في فلسطين بل قتل روح الطفولة؛ فهذا القانون يرمي إلى منع الأطفال أن يحلموا كغيرهم من أطفال الدنيا، فالحلم بالوطن جريمة، والتفكير في مستقبله كبيرة من الكبائر في نظر الاحتلال، ومحظور على الطفل أن ينشد أنشودة لفلسطين والأقصى، ومحظور عليه أن يمسك قلمًا لرسم خريطة فلسطين أو علمها، وممنوع أن يقرأ كتابًا عن تاريخ فلسطين أو حضارتها أو حبها أو ثقافتها، أو جغرافيتها أو جبالها وسهولها ووديانها، أو كل ما له علاقة بفلسطين التاريخ والحاضر والمستقبل.
في سن هذا القانون إقرار ذاتي بعنصرية الاحتلال، واعتراف صريح وضمني بذلك، كيان يمارس التمييز العنصري في وقت يدعي فيه العالم المتحضر أن العنصرية انطوت بانطواء نظام جنوب أفريقيا العنصري في نهايات القرن الماضي، مغمضًا عينيه عن أبشع وأحقد عنصرية عرفها التاريخ على شكل مؤسسة أو مؤسسات.
في إقرار هذا القانون مخالفة أكيدة للقوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية والإنسانية الخاصة بحقوق الإنسان وحقوق الطفل (خصوصًا اتفاقية حقوق الطفل 1989م)، وحرمان لهؤلاء الأطفال من أبسط الحقوق، وهو أن يعيشوا طفولتهم في بيوت آبائهم وأمهاتهم كأي طفل في هذا العالم.
في إقرار هذا القانون يفتح الاحتلال الصهيوني جبهة جديدة للقتال العنصري غير المتوازن، وهي جبهة مواجهة بين طرفين، الطرف الأول جيش منظم ومسلح بأحدث الأسلحة التقليدية والتكنولوجية المعاصرة، ونظام قضائي ومحاكم وأحكام جاهزة ومعلبة، ومؤسسات "دولة" بكامل ترساناتها المختلفة، والطرف الآخر في الجبهة هو أطفال فلسطين قاطبة، وتشمل تلك الشريحة كل من هم دون الثامنة عشرة في (أوكازيونات) عنصرية مكشوفة ومتدرجة، فبعد أن كانت سن الحساب والعقاب 16 عامًا أصبحت 15 ثم 14 ثم 12 وهكذا دواليك حتى الوصول إلى الجنين في بطن أمه.
وحتى لا نبتعد كثيرًا نشير إلى ما حصل مع زوجة الشهيد الفقيه (رحمه الله) منذ أيام، وهي حامل، فإن جنود ومجندات الاحتلال اقتحموا بيتها، واعتدوا عليها ضربًا وتنكيلًا ولكمًا في كل أجزاء جسدها، وكان التركيز على بطنها وظهرها إمعانًا في إيذائها وإيذاء جنينها، في عملية إجهاض متعمدة بسبق الإصرار والترصد، للتخلص من جنين في بطنها قد يولد بعد أشهر فيسير على خطى والده بعد حين، فيكون صداعًا لهم بعدها.
وفي إقرار هذا القانون دلالة واضحة على أن الاحتلال ما زال سادرًا في سياساته الاستئصالية المقصودة والموجهة، التي ترمي إلى محو الذاكرة الفلسطينية، لأن التحدي الأكبر الذي يواجهه الاحتلال اليوم -حسب زعمه وحسب سياساته- هو أن الجيل الذي ولد مع توقيع اتفاقية أوسلو هو الذي يقود انتفاضة القدس اليوم، غير عابئ بعمليات غسل الدماغ التي تستهدفه ليلًا ونهارًا بوساطة إعلام مسلط عليه ومناهج تربوية وسياسات خنوع وإذلال تمارس على شعبنا وأمتنا على مدار الساعة عقودًا طويلة، وذلك بعد أن زج بأجيال انتفاضتين في غياهب الزنازين.
وفي إقرار هذا القانون استهتار كالعادة بكل القيم الإنسانية والأخلاقية؛ فلم يعد في هذا العالم مساحة أي مساحة للعدالة الإنسانية، إنما هي تشدقات نسمعها هنا وهناك وفي وسائل إعلامهم وفضائياتهم لا أكثر، ولا سبيل إطلاقًا كما يبدو لجعلها واقعًا على الأرض يشعر بها المظلومون والمستعبدون تحت نير الموجة الاستعمارية الثالثة، التي بدأت بعد انهيار موجة (سايكس بيكو) أو ما يسمى الدولة القطرية التي أذاقت الشعوب ويلات الاستعباد لعبيد العبيد.
وفي إقرار هذا القانون انتهاك لأدنى المبادئ الأساسية للدستور الكوني المسمى "حقوق الإنسان"؛ فالقضية هنا لم تعد قضية قانون يُشرع، بل قد بدأ تطبيقه على أضعف بني البشر -وهم الأطفال- في غياب كامل لكل المؤسسات الدولية والإنسانية المهتمة بالطفل وحقوقه، التي تضمنها كل شرائع السماء، وأيضًا شرائع الإنسان وقوانينه.
إنها المرة الأولى في تاريخ البشرية منذ نزول آدم (عليه السلام) التي تبتكر فيها "مجموعة" من البشر قانونًا يحاكم الأطفال وتشريعًا يغتال طفولتهم، متجاوزين التاريخ في كل محطاته الناصعة البياض وتلك الأكثر حلكة واسودادًا.
إننا ننتظر من برلمانات العالم التي نشأت لحماية الإنسان من الظلم الأسود والجور الحالك أن يكون لها موقف من هذه الجريمة التي يرتكبها "برلمان منتخب" لتعذيب الطفولة ومحو ذاكرتها، ومنعها من مجرد التفكير لحظة في انتمائها إلى وطنها وأرضها لتبقى نهبًا لعدوها.
لا تعليقات في " محاكمة الأطفال: ابتكار القوانين الأكثر عنصرية "