"الكيان الموازي" الإسرائيلي بوصلة نتنياهو
يعكس الجيش الإسرائيلي الأجواء في المجتمع الإسرائيلي، كونه جيش يعتمد على الخدمة النظامية الإلزامية، ولأنه أكبر مؤسسة في هذه الدولة. ولا يزال هذا الجيش يتمتع بأعلى نسبة ثقة من جانب الجمهور، قياسا بالمؤسسات الأخرى، السياسية والكنيست والجهاز القضائي.
ورغم أن الجيش يؤثر على المجتمع الإسرائيلي، إلا أن تأثره بالمجتمع أكبر. ومع تزايد حضور التيارات الدينية اليمينية المتطرفة، وأبرزها الصهيونية - الدينية والحريديم – القوميين، في المؤسسات السياسية والاجتماعية، فإنه في موازاة ذلك تزايد حضور هذه التيارات في الجيش أيضا.
وتتميز التيارات الدينية القومية بحراكها المكثف في جميع الأصعدة، من جهة، وبحضور شبانها المتزايد إلى الجيش، وخاصة إلى وحدات النخبة القتالية، من الجهة الأخرى.
ومنذ بداية التسعينات بدأت تبرز ظاهرة تجند شبان الصهيونية – الدينية بشكل مكثف جدا لوحدات النخبة، التي كانت معقل العلمانيين في الماضي. ويؤكد حاخامات وزعماء الصهيونية – الدينية على أن الخدمة في الجيش الإسرائيلي ليست واجبا مدنيا وحسب وإنما هي فريضة دينية أيضًا.
ومنذ التسعينيات أصبح ينهي 3 – 5 جنود من الصهيونية – الدينية سنويا مسار التدريبات في وحدة "سرية هيئة الأركان العامة"، وهي وحدة كوماندوس النخبة في الجيش الإسرائيلي، ووحدة كوماندوس "شالداغ"، التي تنحصر مهمتها في تنفيذ عمليات استطلاع في أراضي "العدو". وأحد هؤلاء هو رئيس حزب "البيت اليهودي"، نفتالي بينيت. كذلك أصبحت سرية لواء "غولاني" معقل أبناء الصهيونية – الدينية. وهناك فرق في هذه السرية توجد فيها أغلبية من الجنود الذين ينتمون لهذا التيار.
وأشار الباحثان رؤوفين غال وتامير ليبِل، في كتابهما الذي صدر قبل سنوات قليلة بعنوان "بين القلنسوة والبيرية – الدين، السياسة والجيش في إسرائيل"، إلى أنه في إحدى وحدات النخبة كان يخدم فيها جنديان متدينان في نهاية السبعينيات، وفي منتصف التسعينيات أصبح أبناء الصهيونية – الدينية يشكلون 40% من قادة الفرق في هذه الوحدة وأكثر من 30% من ضباط القيادة العليا فيها.
وفي ظل تقديس الصهيونية – الدينية لـ"ارض إسرائيل الكبرى"، في مقابل رفض الانسحاب في إطار تسوية سلمية إسرائيلية – فلسطينية، فإن قيادة الصهيونية – الدينية تشجع أبناء هذا التيار على الانخراط في الخدمة العسكرية بهدف التأثير في هذه الناحية. ويذكر أنه حدثت حالات، خاصة خلال تنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة في صيف العام 2005، رفض فيها جنود من التيار الصهيوني – الديني تنفيذ أوامر عسكرية بإخلاء مستوطنات انصياعا لفتاوى أصدرها حاخامات.
ويدعم هذا الاتجاه تزايد عدد الوزراء ونواب الوزراء وأعضاء الكنيست الذين يسكنون في المستوطنات. ويصرح معظم هؤلاء السياسيين بأنه يعارض انسحاب إسرائيل من الضفة. كما أن نسبة عالية من المستشارين المحيطين برئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، يعتمرون القلنسوة المنسوجة، التي تشهد على انتمائهم للصهيونية – الدينية.
"سلوكيات عسكرية يهودية"
أدت هذه التحولات في الحلبة السياسية والمؤسسة العسكرية، التي تتمثل بالحضور المتزايد للصهيونية – الدينية، إلى سجالات علنية بين ممثلي هذا التيار وبين المعسكر القديم الصهيوني العلماني.
ويبدو أنه يقود هذه السجالات كممثل للمعسكر الصهيوني العلماني قيادة الجيش الحالية، وخاصة رئيس أركانه، غادي آيزنكوت، ونائبه يائير غولان. وبرز إلى جانب هذين الجنرالين، وزير الأمن الإسرائيلي السابق، موشيه يعالون، الذي أطاح به نتنياهو من منصبه وعيّن مكانه افيغدور ليبرمان.
وبرزت هذه السجالات عدة مرات مؤخرا، وبينها قرار إخراج دائرة "الوعي اليهودي" من سلطة الحاخام العسكري الرئيسي، وهي وحدة تسيطر عليها الصهيونية – الدينية وحاخاماتها؛ تصريحات أطلقها الحاخام العسكري الرئيسي الجديد، أيال قريم، وشرعن من خلالها اغتصاب الجنود الإسرائيليين للنساء غير اليهوديات وقتل فلسطينيين جرحى؛ وتصريحات الحاخام يعئال لفينشطاين، وهو رئيس معهد ديني في مستوطنة "عيلي" يعدّ شبان حريديم – قوميين للخدمة العسكرية، واتهم الجيش بأنه متهاون مع الفلسطينيين عموما ومع منفذي عمليات خصوصا؛ ووصلت هذه السجالات ذروتها في أعقاب توجيه لائحة اتهام ضد الجندي القاتل، إليئور أزاريا، الذي أعدم الشاب عبد الفتاح الشريف في الخليل بعد إصابته بجروح خطيرة وكان عاجزا عن الحركة.
لفينشطاين |
ويذكر أن أشكنازي ويعالون أدانا جريمة أزاريا، بينما أيدها قادة الصهيونية – الدينية ونتنياهو وليبرمان.
وبرزت خلال هذه السجالات مهاجمة حاخامات الصهيونية الدينية، وفي مقدمتهم قريم ولفينشطاين، المثليين عموما والمثليين في الجيش خصوصا. ورغم أن أشكنازي استدعى قريم قبيل تعيينه إلى محادثة بسبب تصريحاته، إلا أنه أعلن في نهايته عن دعمه للتعين.
وتخوض الصهيونية – الدينية والحريديم – القوميين في هذه الأثناء حربا ضد "مركز هيرطمان" و"حركة بينا"، اللذين يمرران دورات لضباط الجيش يعتبرها اليمين أنها متهاونة وتتضمن أفكارا يسارية ومتسامحة تجاه الفلسطينيين.
وقال تقرير نشرته صحيفة "هآرتس"، يوم الجمعة الماضي، إن تتعالى انتقادات واسعة من جانب التيارات اليمينية وفي المستوطنات ضد قيادة الجيش، وأن "أجزاء من وثيقة روح الجيش الإسرائيلي تعتبر هناك أنها قيم نخبة منصهرة (أي تخلّت عن يهوديتها) اختطفت الجيش وفرضت عليه أفكارها، في الوقت الذي يغيب فيه معظم أبناؤها عن الوحدات القتالية، والتي يتطوع فيها ضباط وجنود متدينون بنسبة أعلى بكثير من نسبتهم السكانية".
وأضاف التقرير أن هذه التيارات الدينية اليمينية وعلى رأسها لفينشطاين "يخوضون، من وجهة نظرهم، حربا ضد إضعاف الجيش الإسرائيلي، الذي تسللت إليه قيم ليبرالية وأفكارا إنسانية مرفوضة. وبدلا من ذلك، على الجيش أن يعتمد على مرجعية يهودية، ’سلوكيات عسكرية يهودية’".
وفي المقابل، أشار التقرير إلى أقوال أدلى بها نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غولان، قبل العاصفة التي أثارها عندما حذر من وجود أجواء في إسرائيل مشابهة لتلك التي سادت في ألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية. وتطرق غولان خلال مداخلة أمام ضباط في الاحتياط إلى رسالة وجهها قائد لواء "غولاني" السابق، عوفر فينتر، الذي طالب جنوده قبيل التوغل إلى قطاع غزة أثناء العدوان قبل عامين، بأن يخوضوا حربا دينية ضد "العدو الإرهابي الغزي، الذي يهين ويسب ويشتم إله حروب إسرائيل" وطالب الجنود "باستخدام كافة الوسائل التي بحوزتنا وكل القوة التي تتطلبها المهمة".
ويشار إلى أن فينتر، الذي تمت ترقيته، هو أحد أبرز ضباط الجيش الذين ينتمون للصهيونية – الدينية. وقال غولان إنه استنادا إلى فصل "طهارة السلاح" في وثيقة "روح الجيش الإسرائيلي"، فإن "من وجهة النظر المهنية وكذلك الأخلاقية، ينبغي على الجيش أن يمارس أثناء الحرب الحد الأدنى المطلوب من القوة من أجل تنفيذ مهمة وتقليص المس بالمدنيين بقدر الإمكان". وأثارت أقوال غولان غضبا في صفوف ضباط الاحتياط، ووصف منشور دوري يصدر عن أحد الكنس أقواله بأنها "سرطان أخلاقي" يهدد الجيش.
وفيما تطالب قيادة الحركات الدينية اليمينية "بتخفيف" تعليمات إطلاق النار، عبّر قادة الجيش عن معارضتهم لذلك. وقال آيزنكوت إنه "لا أريد أن يفرغ جنديا ذخيرة بندقيته في جسد فتاة فلسطينية تحمل مقصا" بادعاء أنها تحاول تنفيذ عملية طعن.
والجدير بالإشارة، أن هذا السجال حول تعليمات إطلاق النار دائر في سياق الحرب الإسرائيلية المتواصلة ضد الفلسطينيين، وتصاعد السجال في أعقاب اندلاع الهبة الشعبية الفلسطينية في مطلع تشرين الأول الماضي. ولا يتعلق هذا السجال بحروب مع دول عربية ولا حتى مع حزب الله، ما يؤكد أن هدف اليمين الديني الإسرائيلي هو التحريض الدموي على الفلسطينيين ومنع أي تساهل معهم.
ونقلت "هآرتس" عن قائد لواء في الجيش الإسرائيلي قوله إنه يواجه صعوبات في إقناع جميع قادة السرايا الذين تحت إمرته بصحة خطوات قيادة الجيش في قضية الجندي القاتل أزاريا. وأضاف أنه "نواجه اليوم تحدٍ كبير جدا في الربط بين الجنود وروح الجيش الإسرائيلي في سياق سياسة إطلاق النار والتعامل مع العدو. وفي الهوامش، قد نشهد نتيجة ذلك المزيد من الأحداث المشابهة لقضية أزاريا".
وقال ضابط كبير عضو في هيئة الأركان العامة، إن "العلاقة بين الجيش والمجتمع اليوم، هي الحدث المركزي الذي يُشغل رئيس هيئة الأركان العامة... وهذه الناحية هي القضية الإستراتيجية الأهم بنظره. ولا خيار أمامه سوى الانشغال بذلك، رغم أن بعض أسلافه (في المنصب) فضلوا الابتعاد عن هذه الخلافات لأنهم خشيوا من تعرضهم لنيران سياسية".
"جيشان إسرائيليان"
تناول الخبير في العلاقة بين الجيش والمجتمع والسياسة والمحاضر في الجامعة المفتوحة الإسرائيلية، البروفيسور يغيل ليفي، هذا الصراع بتوسع في أبحاثه التي صدرت في كتب.
ويتطرق ليفي إلى ظاهرة تدخل الحاخامات، من خارج المؤسسة العسكرية، في الشؤون العسكرية. فقد اجتمع حاخامات الصهيونية مع قيادة الجيش عشية تنفيذ خطة الانفصال، من أجل البحث في تسهيل المهمة على الجنود المستوطنين بتنفيذ أوامر إخلاء مستوطنات الكتلة الاستيطانية "غوش قطيف" من القطاع.
ويقتبس ليفي عن أحد حاخامات الصهيونية – الدينية قوله إن هذا التيار لا يطمح إلى وصول أحد الضباط من هذا التيار إلى منصب رئيس أركان الجيش، وإنما أن يكون في الجيش عدد كاف من ضباط الصهيونية – الدينية من أجل منع أي انسحاب أو إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية في المستقبل.
ويرى ليفي أن الصراع ليس حول تعليمات إطلاق النار فقط، وإنما "هو انعكاس لتغير بنيوي أساسي، أدى منذ بداية سنوات الألفين إلى نشوء تدريجي لجيشين".
وأوضح ليفي في مقال نشره في ىذار الماضي، أن هذين الجيشين هما "الجيش الرسمي الذي ينصاع لقيادة سياسية بواسطة القيادة العليا للجيش. ويعمل هذا الجيش انطلاقا من إدراكه أنه أداة لتنفيذ سياسة يبلورها السياسيون. وإلى جانبه ينشأ في الضفة الغربية جيش يؤدي مهام شرطة، يبدو كأنه يخضع لقيادة سياسية (أي الحكومة الإسرائيلية)، لكن هذا خضوع جزئي وحسب. فانتشاره في الضفة جره إلى عملية ’عسكرة الصهيونية’ كقوة تبلور سياسة تتجاوز غالبا السياسة الرسمية".
وأضاف ليفي أن "رغم أن هذا الجيش الذي يؤدي مهام الشرطة خاضع لسلسلة القيادة الرسمية، لكنه يتصرف كجيش لمجتمع المستوطنين. والتعريف الرسمي لمهمته هو تطبيق القانون بالضفة، لكن القوات ملتزمة قبل أي شيء آخر بتوفير الأمن للمستوطنين. ولذلك تطورت فيه ثقافة تنظيمية، يتم التعبير عنها مرارا بالتقاعس عندما يتطلب الأمر تطبيق القانون على مستوطنين، وتجاهل خرق القانون والوقوف جانبا إزاء عنف مستوطنين، الذين نمّوا ظاهرة ’تدفيع الثمن’ والبؤر الاستيطانية العشوائية، وإلى جانب ذلك إخفاء معلومات وتسريبات (من الجيش إلى المستوطنين) وغير ذلك".
وأردف ليفي أنه "في هذا الجيش تُطمس الحدود بين الوحدة العسكرية الرسمية والميليشيات المسلحة للمستوطنين، التي تنشط تحت رعاية الحماية اللوائية. والكثير من الذين يخدمون في الجيش الذي يؤدي مهام الشرطة وضباطهم هم مستوطنون، وخريجو المعاهد الدينية العسكرية، الذين تربوا على أن مهمتهم الأساسية هي الدفاع عن مشروع المستوطنات".
لكن استدراكا على ما تقدم، فإن هذه السجالات بين قيادة الجيش والسياسيين "العقلانيين" وبين ممثلي الصهيونية – الدينية والحريديم – القوميين واليمين الديني الإسرائيلي عموما، هي سجالات بين متهمين بارتكاب جرائم حرب. إذ أن الحروب على غزة في السنوات الأخيرة، وكذلك الحرب على لبنان في العام 2006، لم يقدها ضباط إسرائيليون متدينون، وإنما الضباط الذين يدعون العقلانية، وتم خلالها استخدام القوة المفرطة، التي أزهقت أرواح آلاف المدنيين.
وبالإمكان الاستعارة من تركيا وصفا للحضور المتزايد والمؤثر للصهيونية – الدينية والحريديم – القوميين، وهو أنهم يشكلون فعلا "كيانا موازيا". والفرق الأساسي بين "الكيانين الموازيين" التركي والإسرائيلي هو أن نشطاء "الكيان الموازي" الإسرائيلي موجودون في أكثر من حزب، بل لعل حضورهم الأكبر والأوسع موجود في حزب الليكود الحاكم ويؤثر على سياسة نتنياهو، الذي يدرك أهدافهم ويستوعبها ويعمل بموجبها.
لا تعليقات في " "الكيان الموازي" الإسرائيلي بوصلة نتنياهو "